د. لطيفة.. لا تكف عن الحلم بنهر ماء
د. لطيفة.. لا تكف عن الحلم بنهر ماء
حوار- حبشي رشدي ( جريده الوطن )
أعرفها منذ زمن، فهي تحلم دائما بنهر ماء، تشحذ جيولوجيتها بحثا عما يروي عطش الأرض، من اجل قطر الخضراء التي تزرع الكثير من احتياجاتها المحصولية.
وحينما طرحت مشروعها «البساط الأخضر» حاصرتها الشكوك من كل حدب وصوب، ولكنها حاولت واجتهدت- وما زالت- من أجل صورة في مخيلتها لغوطات ومزارع تحقق بعضا من الأمن الغذائي.
الجيولوجيا التي تخصصت فيها وتدرسها لطلاب وطالبات، ليست فقط مسبارا يغوص وراء المطمور في أحشاء الأرض، ولكن د. لطيفة النعيمي حدثتنا عن جيولوجيا الإنسان، المكونة من طبقات نفسية وعمرية، من مجموعها تتشكل الشخصية، وما في أعماقها من بقاع مضيئة، وأيضا ما يتخللها من كهوف مظلمة أحيانا.
والتفاصيل في سطور الحوار التالي معها:
_ الجيولوجيا علم ذكوري بتبعاته الثقيلة، فما الذي حببك في هذا العلم؟
- في العلم لا يوجد ما هو للرجل، وما يناسب المرأة، فمثل هذه الأفكار الإقصائية للمرأة تبخرت من الكون بدليل أن باحثات نساء ينجحن فيما لا ينجح فيه الرجال.
_ ولكن الجيولوجيا صخور وحفريات وبراكين وزلازل ومناجم، وهو ما يتقاطع مع نعومة المرأة؟
- نعومة المرأة لا تلغ لها عقلها، ولا تقلل من قدراتها وإمكاناتها وذكائها.
_ كيف استفدت أنت كإنسانة من الجيولوجيا؟
- ربما أن الجيولوجيا علمتني أن أفهم الإنسان على نحو جيولوجي.
_ وهل هناك جيولوجيا للإنسان؟
- نعم، لأن للإنسان مراحل عمرية، تبدأ بالطفولة المبكرة، ثم الطفولة، فالصبا، فالشباب، فالنضج، فالكهولة.. الخ، ويمكنني- باجتراء- أن أصف كل مرحلة عمرية في حياة الإنسان بأنها كطبقة جيولوجية، فكما أن الأرض التي نعيش عليها تتكون من طبقات جيولوجية صخرية متراصة ومتعاقبة، كل منها يختلف عن الآخر ويقود إليه، فإن مراحل عمر الإنسان كل منها طبقة جيولوجية يليها أخرى، وكما أن شخصية الإنسان تكون حاصل جمع هذه الطبقات العمرية، فإنه أيضا تكون للأرض أيضا شخصيتها المترتبة على مكونات طبقاتها.
_ في زمن «العالم الافتراضي» لو عادت د. لطيفة النعيمي إلى مقاعد الدراسة، فما العلم الذي ستدرسه خلافا للجيولوجيا؟
- كنت سأدرس الطب، وتحديدا طب الأعصاب
_ ولماذا طب الأعصاب؟
- لان الأعصاب أهم شيء في الإنسان، فيتوقف على صحتها التفكير والهدوء والإبداع والكيفية التي يبدي بها الإنسان رأيه، والقدرة على الحركة والتعبير عن القوة، كما أن أعصاب الإنسان يمكنها أن تفقده حياته، لأنه بكلمة واحدة تنفلت من بين أعصابه يمكن أن يفقد الإنسان توازنه، أو يصاب بمرض خطير. ولهذا فإن حياة الإنسان ومستقبله وعلاقاته بالغير، بل وعلاقة الإنسان بذاته، تتوقف على صحة أعصابه وقوتها.
وهذا التصور يجعلني أربط بين الجيولوجيا وعلم الأرض من جهة، والطبقات البشرية العمرية من جهة أخرى.
_ وما العلاقة بين الطبقات الجيولوجية والطبقات العمرية البشرية فيما يتعلق بالأعصاب؟
- ألا تعرف أن الأرض تتوتر وتغضب، تماما كما الإنسان يتوتر ويغضب، فالأرض حينما تتوتر تحدث الزلازل، والإنسان حينما يتوتر يرتعد وتقشعر فرائسه، وحينما تغضب الأرض تحدث البراكين، فتطلق الحمم والصخور المنصهرة، والإنسان أيضا حينما يغضب، يعبر عن هذا الغضب بالكلام القاسي، أو بالضرب، بل ويمكن أن يفضي به غضبة إلى اكثر من ذلك، فيحطم الأشياء، ولهذا فأنني اسمي مجازا الزلازل و البراكين التي تحدث بأنها: «علم نفس الأرض».
_ أهكذا منهجت لك الجيولوجيا فهما للإنسان؟
- الله العلي القدير خلق الإنسان من الأرض، وإلى الأرض مثواه، وهذه النظرة الجيولوجية للإنسان لها فوائدها، مثل ان يتعلم المرء كيف يغوص في أعماق الآخر، وكيف يجري حفريات جيولوجية في شخصيته، فمثلا على صعيد الجيولوجيا لا يجب رؤية الأرض بطبقة رخوة من الرمال على سطحها، بل بما تخفية هذه الرمال من طبقات جيولوجية، والإنسان كذلك ينبغي ألا يأخذنا ظاهرة دون التطرق إلى أعماقه وما يخفيه هذا الظاهر الذي نراه، تماما كما يقول مثل معروف: «يعطيك من طرف اللسان حلاوة، يراوغ كما يراوغ الثعلب»، فالكلام بملمس الحرير لا ينبغي أن يعمينا عن كلام آخر مطمور ومتوارٍ في نفس المتحدث، وهكذا، فالأرض الرخوة في الظاهر، لا تعني أن أعماقها بذات الرخاوة والليونة، وفي الحياة نلتقي أناسا تسحرنا أحيانا استقبالاتهم البشوشة، أو كلماتهم الساحرة الرنانة، وعباراتهم المليئة بالوعود الحالمة، بينما حينما يحل وقت الحقيقة ستجده أجوف من الداخل، وتأسف أنك أعطيته ثقتك، لأن جيولوجيته النفسية لها ظاهر رخو، وبها باطن مخفي ومطمور وشديد القسوة.
_ كل هذا من خلال دراستك الجيولوجيا؟
- بل قل كل ذلك من خلال توسيع حدقة الجيولوجيا لتشمل الإنسان، وليس فقط الصخور والحفريات.
_ كم عاما تدرسين طلبتك في جامعة قطر؟
- منذ العام 1996
_ ما الفرق بين القطري زمان، وما أصبح عليه الآن؟
- لن أقول لك ان الفارق كبير، ذلك لأن الطالب هو الطالب، ما اختلف هو تأثير البيئة المحيطة بالطالب، فهناك طلاب متميزون، وآخرون يأخذون الأمور بسطحية.
ولكن الطالب في السابق كان يجتهد بشكل كبير، رغم قلة مصادر التعلم المتاحة في تلك الأزمنة، فهي كانت تعتمد على الكتب والمراجع فقط، أما الآن فقد تعددت مصادر التعلم للطالب، وأصبحت أسهل، وخصوصا عبر الشبكة العنكبوتية، ولهذا اعتقد أن طالب هذه الأيام محظوظ، بل ومحظوظ جدا.
_ أنت تدرسين للجنسين، ولهذا سأطرح عليك سؤالا متكررا، وتنوعت الإجابة عليه، وهو: لماذا طالباتنا أكثر تفوقا من طلابنا الذكور؟
- سأفاجئك حين أقول لك ان هذا السؤال احد الأخطاء الشائعة، فليست الطالبات اكثر تفوقا من الطلاب.
_ ألا تؤكد النتائج ان الطالبات اكثر تفوقا من الطلاب؟
_ دعني اشرح وجهة نظري، ولا تتهمني بالانحياز للطلاب اكثر من الطالبات، فأنا أكاديمية، ليس في قاموسها تحيز إلا للحقيقة، فقد درست للجنسين، وكانت النتائج تقول ان الطالبات اكثر تفوقا من الطلبة، ولكن الحقيقة ان الطلاب اكثر فهما ووعيا بالمادة المعرفية المشروحة في المحاضرة من الطالبات، لأنني حينما اسأل وأناقش طلابي وطالباتي في أعقاب المحاضرة اكتشف أن الطلاب قد فهموا بأكثر مما فهمته الطالبات، ولكن الذي يحدث ان الطالبات يحفظن حفظا المادة، بينما الطلاب يفهمون ويأنفون الحفظ، وهذا هو الفارق، او السبب في القول ان البنات اكثر تفوقا من البنيين، بينما الواقع العملي و الميداني يثبت ان الكفاءة و النجاح للطلاب، و بدليل ان تلاميذي صار كثير منهم في مواقع مرموقة.
_ من هم الذين درستهم، وأصبحوا مسؤولين مرموقين؟
- من تلاميذي الآن وزير ومسؤولون كبار، ولكن اعذرني أنني لن أذكر لك أسماءهم.
_ كيف تربين أولادك وبناتك؟
- إنني وزوجي نربي أولادنا وبناتنا بطريقة ديمقراطية، وذلك على الرغم من ان الديمقراطية في البيت متعبة جدا، لأنها تضطرك ان تأخذ في اعتبارك عناصر عديدة قبل أي قرار تتخذه.
وهناك دائما فرق بين التربية التي توفرها المدرسة، والتربية التي يوفرها البيت، فالأخيرة تكون مقرونة بسلطة والدية اقل مرونة، كونها تأخذ في الاعتبار مخاوفها ومحظوراتها، ولهذا لا تترك الحبل على الغارب، وفي اغلب الأحيان تمنع بعض ما تتيحه المدرسة.
_ أعلم أن حلمك القديم هو نهر مياه في قطر يوظف للزراعة ولأغراض شتى، إلى أين وصل هذا الحلم؟
- إنه كان حلمي ولا يزال وسيظل، لثقتي أن المياه ووفرتها هي الأساس للتنمية لا يمكن إغفاله، ومع ذلك فما زلنا لم نتقدم خطوة واحدة في توفير المياه منذ طرحت مشروع البساط الأخضر وحتى الآن.
_ كيف أننا لم نتقدم، بينما تتوفر المياه والحمد لله؟
- تتوفر المياه للاستخدام البشري نعم، ولكني اقصد المياه التي توظف للزراعة، والتي يمكن استخدامها في استصلاح أراضٍ سهلة واسعة، فقد تضاعفت المياه ربما مئات المرات، وتعددت مصادرها، سواء بالنزح من الخزان الجوفي، أو من فوائض مياه الصرف الصحي المعالجة، أو فوائض محطات تحلية المياه.
فحتى الآن المياه في دولة قطر لم تجد لها صوتا يحتويها، ويعيد استخدامها، اعرف ان وزارات الدولة لم تألُ جهدا، ويحاول كل منها فيما هو منسوب إليها، و لكن هناك فجوة كبيرة في عملية التنسيق بين هذه الجهات، وهو ما أنادي به منذ التسعينيات وحتى الآن، فعملية التنسيق مفقودة، ولدينا فوائض من المياه متعددة المصادر ينبغي إعادة توظيفها، والزراعة لا تجد من يعطيها الاهتمام الأكبر الذي تستحقه ثروة لا غنى عن الاعتناء بها، ولهذا أصبحت كل من الزراعة والمياه ضفتين متباعدتين لا تجري بينهما وشائج، ولم يتم الاعتناء بهذه الوشائج كما يجب.
_ ألا ترين العالم المتقدم يبحث عن المياه فوق سطح الكواكب الأخرى، بينما انت تنادين باستخدام مياه في باطن الأرض، ألا يمثل ذلك مفارقة؟
- إنها مصادر متاحة لنا فلماذا لا نبحث في حسن إعادة استخدامها، فالمتقدمون يبحثون عن المياه فوق سطح الكواكب الأخرى كتأمين حياة رواد الفضاء الذين سيسافرون إلى هذه الكواكب الأخرى، ولكننا نبحث عن المياه التي تكفي للزراعة في قطر، وعلى نحو يؤمن لنا احتياجاتنا ويغنينا عن شراء كل هذه الاحتياجات من الخارج، وهذا فيما أتصور واجب وطني.
فلا يكفي أن يتم استخدام فائض المياه في زراعة الشوارع والمسطحات الخضراء، بل إننا يجب أن نزرع أعلافا وخضروات وأنواعا من الفواكه، حتى لا نضطر إلى استيراد كل ذلك، أريد أن أؤكد على الأهمية الاستراتيجية للأمن الغذائي والزراعي، وإن أردنا أن يكون لدينا طفرة زراعية، فلابد من التنسيق والتنظيم حتى تصبح قطر خضراء، ويتحقق حلمنا في بيئة زراعية تكون سرورا للنظر.
_ وهل لا يزال بحثك عن المياه للزراعة مستمرا؟
- المياه موجودة، ولا تحتاج إلى بحث، بل وطرق الاستفادة منها معروفة، وهي الـ«R O» أو التناضح العكسي، وقد ناديت بذلك منذ التسعينيات، وأنت شاهد على هذا النداء، والآن فإن أفكاري ما يتم بحثها.
أعرفها منذ زمن، فهي تحلم دائما بنهر ماء، تشحذ جيولوجيتها بحثا عما يروي عطش الأرض، من اجل قطر الخضراء التي تزرع الكثير من احتياجاتها المحصولية.
وحينما طرحت مشروعها «البساط الأخضر» حاصرتها الشكوك من كل حدب وصوب، ولكنها حاولت واجتهدت- وما زالت- من أجل صورة في مخيلتها لغوطات ومزارع تحقق بعضا من الأمن الغذائي.
الجيولوجيا التي تخصصت فيها وتدرسها لطلاب وطالبات، ليست فقط مسبارا يغوص وراء المطمور في أحشاء الأرض، ولكن د. لطيفة النعيمي حدثتنا عن جيولوجيا الإنسان، المكونة من طبقات نفسية وعمرية، من مجموعها تتشكل الشخصية، وما في أعماقها من بقاع مضيئة، وأيضا ما يتخللها من كهوف مظلمة أحيانا.
والتفاصيل في سطور الحوار التالي معها:
_ الجيولوجيا علم ذكوري بتبعاته الثقيلة، فما الذي حببك في هذا العلم؟
- في العلم لا يوجد ما هو للرجل، وما يناسب المرأة، فمثل هذه الأفكار الإقصائية للمرأة تبخرت من الكون بدليل أن باحثات نساء ينجحن فيما لا ينجح فيه الرجال.
_ ولكن الجيولوجيا صخور وحفريات وبراكين وزلازل ومناجم، وهو ما يتقاطع مع نعومة المرأة؟
- نعومة المرأة لا تلغ لها عقلها، ولا تقلل من قدراتها وإمكاناتها وذكائها.
_ كيف استفدت أنت كإنسانة من الجيولوجيا؟
- ربما أن الجيولوجيا علمتني أن أفهم الإنسان على نحو جيولوجي.
_ وهل هناك جيولوجيا للإنسان؟
- نعم، لأن للإنسان مراحل عمرية، تبدأ بالطفولة المبكرة، ثم الطفولة، فالصبا، فالشباب، فالنضج، فالكهولة.. الخ، ويمكنني- باجتراء- أن أصف كل مرحلة عمرية في حياة الإنسان بأنها كطبقة جيولوجية، فكما أن الأرض التي نعيش عليها تتكون من طبقات جيولوجية صخرية متراصة ومتعاقبة، كل منها يختلف عن الآخر ويقود إليه، فإن مراحل عمر الإنسان كل منها طبقة جيولوجية يليها أخرى، وكما أن شخصية الإنسان تكون حاصل جمع هذه الطبقات العمرية، فإنه أيضا تكون للأرض أيضا شخصيتها المترتبة على مكونات طبقاتها.
_ في زمن «العالم الافتراضي» لو عادت د. لطيفة النعيمي إلى مقاعد الدراسة، فما العلم الذي ستدرسه خلافا للجيولوجيا؟
- كنت سأدرس الطب، وتحديدا طب الأعصاب
_ ولماذا طب الأعصاب؟
- لان الأعصاب أهم شيء في الإنسان، فيتوقف على صحتها التفكير والهدوء والإبداع والكيفية التي يبدي بها الإنسان رأيه، والقدرة على الحركة والتعبير عن القوة، كما أن أعصاب الإنسان يمكنها أن تفقده حياته، لأنه بكلمة واحدة تنفلت من بين أعصابه يمكن أن يفقد الإنسان توازنه، أو يصاب بمرض خطير. ولهذا فإن حياة الإنسان ومستقبله وعلاقاته بالغير، بل وعلاقة الإنسان بذاته، تتوقف على صحة أعصابه وقوتها.
وهذا التصور يجعلني أربط بين الجيولوجيا وعلم الأرض من جهة، والطبقات البشرية العمرية من جهة أخرى.
_ وما العلاقة بين الطبقات الجيولوجية والطبقات العمرية البشرية فيما يتعلق بالأعصاب؟
- ألا تعرف أن الأرض تتوتر وتغضب، تماما كما الإنسان يتوتر ويغضب، فالأرض حينما تتوتر تحدث الزلازل، والإنسان حينما يتوتر يرتعد وتقشعر فرائسه، وحينما تغضب الأرض تحدث البراكين، فتطلق الحمم والصخور المنصهرة، والإنسان أيضا حينما يغضب، يعبر عن هذا الغضب بالكلام القاسي، أو بالضرب، بل ويمكن أن يفضي به غضبة إلى اكثر من ذلك، فيحطم الأشياء، ولهذا فأنني اسمي مجازا الزلازل و البراكين التي تحدث بأنها: «علم نفس الأرض».
_ أهكذا منهجت لك الجيولوجيا فهما للإنسان؟
- الله العلي القدير خلق الإنسان من الأرض، وإلى الأرض مثواه، وهذه النظرة الجيولوجية للإنسان لها فوائدها، مثل ان يتعلم المرء كيف يغوص في أعماق الآخر، وكيف يجري حفريات جيولوجية في شخصيته، فمثلا على صعيد الجيولوجيا لا يجب رؤية الأرض بطبقة رخوة من الرمال على سطحها، بل بما تخفية هذه الرمال من طبقات جيولوجية، والإنسان كذلك ينبغي ألا يأخذنا ظاهرة دون التطرق إلى أعماقه وما يخفيه هذا الظاهر الذي نراه، تماما كما يقول مثل معروف: «يعطيك من طرف اللسان حلاوة، يراوغ كما يراوغ الثعلب»، فالكلام بملمس الحرير لا ينبغي أن يعمينا عن كلام آخر مطمور ومتوارٍ في نفس المتحدث، وهكذا، فالأرض الرخوة في الظاهر، لا تعني أن أعماقها بذات الرخاوة والليونة، وفي الحياة نلتقي أناسا تسحرنا أحيانا استقبالاتهم البشوشة، أو كلماتهم الساحرة الرنانة، وعباراتهم المليئة بالوعود الحالمة، بينما حينما يحل وقت الحقيقة ستجده أجوف من الداخل، وتأسف أنك أعطيته ثقتك، لأن جيولوجيته النفسية لها ظاهر رخو، وبها باطن مخفي ومطمور وشديد القسوة.
_ كل هذا من خلال دراستك الجيولوجيا؟
- بل قل كل ذلك من خلال توسيع حدقة الجيولوجيا لتشمل الإنسان، وليس فقط الصخور والحفريات.
_ كم عاما تدرسين طلبتك في جامعة قطر؟
- منذ العام 1996
_ ما الفرق بين القطري زمان، وما أصبح عليه الآن؟
- لن أقول لك ان الفارق كبير، ذلك لأن الطالب هو الطالب، ما اختلف هو تأثير البيئة المحيطة بالطالب، فهناك طلاب متميزون، وآخرون يأخذون الأمور بسطحية.
ولكن الطالب في السابق كان يجتهد بشكل كبير، رغم قلة مصادر التعلم المتاحة في تلك الأزمنة، فهي كانت تعتمد على الكتب والمراجع فقط، أما الآن فقد تعددت مصادر التعلم للطالب، وأصبحت أسهل، وخصوصا عبر الشبكة العنكبوتية، ولهذا اعتقد أن طالب هذه الأيام محظوظ، بل ومحظوظ جدا.
_ أنت تدرسين للجنسين، ولهذا سأطرح عليك سؤالا متكررا، وتنوعت الإجابة عليه، وهو: لماذا طالباتنا أكثر تفوقا من طلابنا الذكور؟
- سأفاجئك حين أقول لك ان هذا السؤال احد الأخطاء الشائعة، فليست الطالبات اكثر تفوقا من الطلاب.
_ ألا تؤكد النتائج ان الطالبات اكثر تفوقا من الطلاب؟
_ دعني اشرح وجهة نظري، ولا تتهمني بالانحياز للطلاب اكثر من الطالبات، فأنا أكاديمية، ليس في قاموسها تحيز إلا للحقيقة، فقد درست للجنسين، وكانت النتائج تقول ان الطالبات اكثر تفوقا من الطلبة، ولكن الحقيقة ان الطلاب اكثر فهما ووعيا بالمادة المعرفية المشروحة في المحاضرة من الطالبات، لأنني حينما اسأل وأناقش طلابي وطالباتي في أعقاب المحاضرة اكتشف أن الطلاب قد فهموا بأكثر مما فهمته الطالبات، ولكن الذي يحدث ان الطالبات يحفظن حفظا المادة، بينما الطلاب يفهمون ويأنفون الحفظ، وهذا هو الفارق، او السبب في القول ان البنات اكثر تفوقا من البنيين، بينما الواقع العملي و الميداني يثبت ان الكفاءة و النجاح للطلاب، و بدليل ان تلاميذي صار كثير منهم في مواقع مرموقة.
_ من هم الذين درستهم، وأصبحوا مسؤولين مرموقين؟
- من تلاميذي الآن وزير ومسؤولون كبار، ولكن اعذرني أنني لن أذكر لك أسماءهم.
_ كيف تربين أولادك وبناتك؟
- إنني وزوجي نربي أولادنا وبناتنا بطريقة ديمقراطية، وذلك على الرغم من ان الديمقراطية في البيت متعبة جدا، لأنها تضطرك ان تأخذ في اعتبارك عناصر عديدة قبل أي قرار تتخذه.
وهناك دائما فرق بين التربية التي توفرها المدرسة، والتربية التي يوفرها البيت، فالأخيرة تكون مقرونة بسلطة والدية اقل مرونة، كونها تأخذ في الاعتبار مخاوفها ومحظوراتها، ولهذا لا تترك الحبل على الغارب، وفي اغلب الأحيان تمنع بعض ما تتيحه المدرسة.
_ أعلم أن حلمك القديم هو نهر مياه في قطر يوظف للزراعة ولأغراض شتى، إلى أين وصل هذا الحلم؟
- إنه كان حلمي ولا يزال وسيظل، لثقتي أن المياه ووفرتها هي الأساس للتنمية لا يمكن إغفاله، ومع ذلك فما زلنا لم نتقدم خطوة واحدة في توفير المياه منذ طرحت مشروع البساط الأخضر وحتى الآن.
_ كيف أننا لم نتقدم، بينما تتوفر المياه والحمد لله؟
- تتوفر المياه للاستخدام البشري نعم، ولكني اقصد المياه التي توظف للزراعة، والتي يمكن استخدامها في استصلاح أراضٍ سهلة واسعة، فقد تضاعفت المياه ربما مئات المرات، وتعددت مصادرها، سواء بالنزح من الخزان الجوفي، أو من فوائض مياه الصرف الصحي المعالجة، أو فوائض محطات تحلية المياه.
فحتى الآن المياه في دولة قطر لم تجد لها صوتا يحتويها، ويعيد استخدامها، اعرف ان وزارات الدولة لم تألُ جهدا، ويحاول كل منها فيما هو منسوب إليها، و لكن هناك فجوة كبيرة في عملية التنسيق بين هذه الجهات، وهو ما أنادي به منذ التسعينيات وحتى الآن، فعملية التنسيق مفقودة، ولدينا فوائض من المياه متعددة المصادر ينبغي إعادة توظيفها، والزراعة لا تجد من يعطيها الاهتمام الأكبر الذي تستحقه ثروة لا غنى عن الاعتناء بها، ولهذا أصبحت كل من الزراعة والمياه ضفتين متباعدتين لا تجري بينهما وشائج، ولم يتم الاعتناء بهذه الوشائج كما يجب.
_ ألا ترين العالم المتقدم يبحث عن المياه فوق سطح الكواكب الأخرى، بينما انت تنادين باستخدام مياه في باطن الأرض، ألا يمثل ذلك مفارقة؟
- إنها مصادر متاحة لنا فلماذا لا نبحث في حسن إعادة استخدامها، فالمتقدمون يبحثون عن المياه فوق سطح الكواكب الأخرى كتأمين حياة رواد الفضاء الذين سيسافرون إلى هذه الكواكب الأخرى، ولكننا نبحث عن المياه التي تكفي للزراعة في قطر، وعلى نحو يؤمن لنا احتياجاتنا ويغنينا عن شراء كل هذه الاحتياجات من الخارج، وهذا فيما أتصور واجب وطني.
فلا يكفي أن يتم استخدام فائض المياه في زراعة الشوارع والمسطحات الخضراء، بل إننا يجب أن نزرع أعلافا وخضروات وأنواعا من الفواكه، حتى لا نضطر إلى استيراد كل ذلك، أريد أن أؤكد على الأهمية الاستراتيجية للأمن الغذائي والزراعي، وإن أردنا أن يكون لدينا طفرة زراعية، فلابد من التنسيق والتنظيم حتى تصبح قطر خضراء، ويتحقق حلمنا في بيئة زراعية تكون سرورا للنظر.
_ وهل لا يزال بحثك عن المياه للزراعة مستمرا؟
- المياه موجودة، ولا تحتاج إلى بحث، بل وطرق الاستفادة منها معروفة، وهي الـ«R O» أو التناضح العكسي، وقد ناديت بذلك منذ التسعينيات، وأنت شاهد على هذا النداء، والآن فإن أفكاري ما يتم بحثها.